فن الاغواء في كتابة القصة القصيرة جدا ـــــــ جمال المظفر
أخذت القصة القصيرة جدا تغوي الكثير من الادباء لكتابتها كون مساحة النص صغيرة نسبيا ولاتحتاج الى سرد موسع ، ودخل مجال كتابتها عدد كبير من الشعراء وبالاخص كتاب قصيدة النثر كونها أقرب الى هذا اللون الشعري ولكنها تختلف عنه في لغة السرد . حتى ان الكثير من الكتاب اخذوا يكتبون اكثر من نص واحد في اليوم مستسهلين كتابتها .
ولكن رغم صغر مساحة كتابتها الا ان الكثير من الادباء لم يتمكنوا من الابداع والخروج بنصوص ترقى الى هذا الفن الذي لاقى مالاقى من الرفض من قبل العديد من النقاد والمهتمين بالنقد القصصي بأنه فن لايمت للقصة بأي صلة لان القصة تعتمد على السرد وهذا النوع من القص لاهوية له لانه مكثف جدا يختزل السرد اختزالا كليا ، ومازال الصراع قائما مابين مؤيد ومدافع عنه ومابين رافض ومعارض له ..
القصة القصيرة جدا تهتم بالموضوع والفكرة دون الاهتمام بالشخوص ، خالية من الغموض ، تتطلب صياغة متقنة من ناحية الحبكة وتوظيف الشخصيات وبنية الزمن والاسلوب والفضاءات ، والاختزال فيها لايؤثر في التعبير، والشخصية في القصة القصيرة جدا تتحرك وفق فكرة وخيال القاص لاوفق شكلها العام أو تركيبتها ، هي قصة ( الضربة الخاطفة ) أو ( الومضة ) لازمان لها ولامكان الا في ذهن كتبها ، الومضة التي تجعل القارئ أو المتلقي يتابع لحظتها الانية ليحل شفراتها ، الومضات الزمنية تتشكل في فضاء فكري يعمل بالذبذبة الذهنية .
القصة القصيرة جدا هي قصة الذروة الدرامية القاطنة في ذهن تخميني متمكن من صياغة نسيج لغوي درامي ناضج المعاني والصور والدلالات ، ليس بالضرورة ان تحتوي على أساسيات كتابة القصة القصيرة كالاستهلال والعقدة والحل ، لاتحتوي على مفردات زائدة لاتؤدي دورها في القص الفاعل ، هناك سلة مهملات للكثير من الزوائد الكلمية والمفردات الخالية من المعنى المؤثر ، الترابط في الثيمات مهم جدا من اجل صناعة نص مبني بحرفية عالية ورصانة .. كاتب القصة القصيرة جدا يتحرك في مجال ضيق وعليه أن يثبت براعته في إخراج نص مؤثر وفاعل بأستخدام أقل عدد ممكن من المفردات لمساحة أوسع من المعنى ، لايهم عدد الشخوص في القصة ، وليس هناك مساحة للحوارات أو تعدد الشخصيات . هي خلاصة فكرة ناضجة تؤثر في المتلقي وتجعله يعيش اللحظة بتفاصيلها وصورها كما هي في ذهن الكاتب ، القصة القصيرة جدا تأخذ شكل تسميتها ، نص مختزل بدرجة كبيرة قد لايتعدى أحيانا الخمس كلمات ، والقاص البارع هو من يقدر ان يوصل الفكرة ( الومضة ) أو الذروة الدرامية الى ذهن القارئ ، أو بالاحرى إعادة ترشيح الضوء الصادر من قزحية العين الى الوان عدة تشكل الوان الطيف الشمسي ( الصورة الواضحة المعالم ) ، ليس كل فكرة قابلة لأن تكون قصة قصيرة جدا ، وإنما الفكرة المنتقاة المقتنصة من حلم عابر أو مشهد درامي خاطف يؤثر في القارئ ويترك بصمة في ذهنه ..
في العراق برز عدد من كتاب القصة القصيرة جدا الذين أبدعوا في كتابتها وتفننوا في أساليب القص ، مثل حنون مجيد وكريم الوائلي وعلوان السلمان وايناس البدران ونجاة عبدالله وجابر محمد جابر وكاظم الميزري ومنتظر ناصر وضياء مهدي وأسماء أخرى لم أستطع الحصول على نماذج لهم .
فالقاص حنون مجيد الذي يستند على تاريخ قصصي متميز ومؤثر في المشهد القصصي العراقي أثبت وجوده في مجموعته الصادرة عن الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق تحت عنوان ( وردة لهذا الفطور ) ، ففي نص تحت عنوان "غضب " يقول ( انحنى على سلاحه ... التقطه من أرض تزخر به ، وحينما كور قبضته عليه ولف ذراعه بكل عنفه ، قذفهم به ، لم يصب احدا ، فما كان بمقدور طفل ان يصيب اعداء يتقهقرون ، انما مر بغضبه على وجوههم جميعا ) هذا الاختزال في السرد لم يفقد المعنى شيئا ، هناك احتدام درامي واختزال في الكلمات وضربة مفاجئة في نهاية القصة . وفي نص آخر بعنوان " المعركة قادمة " يقول ( زوجتي ماهرة في الطبخ ، غير أنها لاتحب الضيوف ، ويوما قبيل الغداء دهمت حلمي رائحة طبخها اللذيذ فدعوت عشرة من الضيوف ) هذا النص يبرز صورة حلمية تكمن في مخيلة الكاتب ، شخوصها ليسوا ذوي تأثير في النص ، عشرة شخوص وهميين يقطنون في العقل اللاواعي للقاص ، زوجته عنصر القص الرئيس والخوف من المعركة هو الشكل الدرامي للنص .
اما القاص والناقد علوان السلمان فأنه برز في العديد من القصص القصيرة جدا ، داركا لمعنى القص المختزل ، فهو الناقد الذي كتب العديد من الدراسات النقدية في هذا المجال ويتجنب ان تكون هناك زلات اومطبات سردية في نصوصه ، الكاتب الناقد يكون أقرب الى نصوصه لغة ونقدا فنيا وتفكيكا لانه يمتلك خزينا فكريا للكتابة العلمية والعملية ، ففي نص له بعنوان " اردية " ضمن مجموعته ( الجسر ) والتي تضم (134 ) قصة قصيرة جدا يقول ( حبل الغسيل يتمطى تحت ظلال الريح الخفيفة بعد أن هجرته الاردية التي نزعت همومها في غسيل الصباح وعانقت الاجساد .).
هذه اللغة التي تقترب من النثر الشعري والفكرة الناضجة المختزلة التي ترجمت الى نص جميل تكون فيه الاردية عنصر القص أو السرد مع أختزال في الكلمات ، فهو يعتمد دائما نظام القص القصير جدا الذي لايتجاوز السطر الى خمسة أسطر ، وفي هذه المساحات تثبت امكانية القاص المتمكن الحريف الذي يحيل المفردات الى قص فاعل .
وفي نص آخر تحت عنوان " كراسي " ( صمت خانق انتشر في وسط القاعة فراح الشاعر يقلب نظراته القلقة بين الكراسي الصامتة .. بينما راحت شياطين الشعر تهمس في أذنيه لعله يتكلم ..).
قلق الشاعر عنصر القص والشاعر المحور الاساس في النص ، القاص دائما يتلاعب بالشخصية الواحدة في قصصة ، يحركها حسب رؤيته للشخصية ويحركها وفق تخيلاته التي تنضج النص ، وتحيك سردا مختزلا لاوجود لكلمات غير مؤثرة فيه .
اما القاص كريم الوائلي فهو الآخر من كتاب القصة القصيرة جدا الذين أثبتوا حضورا متميزا في المشهد القصصي العراقي ، يقول في نص قصير له ( لم تنضج لي ملامح الوجه حين خطف القميص الهفهاف ، يقتفي سحابة شعرها كملاءة سوداء تموج في فضة النهار ، قلبت صور ذابلة لاثها النسيان في ذهني .. كانت مجرد ذؤابات شعر فاحم وخفقات ثوب زهري يتثنى ملوحا بين الساقين .. اعترتني وهلة حين تنسمت عطر تعرقها الحاثل في ذاكرتي ) القاص هنا لم يعط الشخصية صورة واضحة ، ترك القارئ والمتلقي يخطف معه الى ملامح تلك الشخصية العابثة في قلب القاص – النص – هذه القصة لازمن لها ولامكان انها تقطن في الذهن التخميني للقاص المفرط الذكاء ، في انه يجعلك تنسحب معه الى منطقة اشتغاله وتلك ميزة الكاتب المتمكن ..
وفي نص متقن الحبكة والترابط في الثيمات يقول ( الارض تبصق النار والشظايا في وجه النهار ، والسن وحشية تلتوي مع الدخان .. امسك بضفيرة النار وحلق طويلا مع سوق " الصدرية " فبدت مدينته من عل مثل مقبرة هجرها الموتى .. رنا الى الحي الذي تسكنه امه ، فتمثلت له مفردة الجناحين ، استعاد لبرهة اخر رمقة لها وهي ترش الماء خلفه لكن مغزل الفضاء فتله مع الدخان وطوح به بعيدا ..!!
لغة متقنة وخيال رائع في تصوير المشهد اللحظوي الذي تنطلي عليه لحظة الانفجار ولحظة الترقب الانية لمشهد الام التي ترش الماء ، ففي الميثولوجيا يحكى ان الامهات يرشن الماء خلف ابنائهن وزواجهن من اجل ان يعودوا سالمين ، ولكن الابن حلق عاليا في فضاء أثيري لم تنفع معه الميثولوجيا ولا رشات الماء التي ذرفتها خلفه الام ، انه يرى المدينه من علو ( لحظة إنطلاق الروح) الى الفضاء الاثيري ليرى الدمار والحطام الذي طال سوق الصدرية التاريخي ، (الجناحين) دالين على التحليق وهي وصف للاماكن العلوية ، يرمز لها القصاصون دائما في لحظات الموت ، فلا يقول القاص ان فلانا قد مات ، وانما حلق عاليا بجناحين أو بخياله وما الى ذلك من الاوصاف الدالة .
وللقاص جابر محمد جابر امكانية كبيرة في كتابة القصة القصيرة جدا ونصوصه المتقنة الخالية من الاسفاف والترهل السردي ، يختزل الكلمات من أجل اكبر معنى للنص المحاك بمهارة عالية ، ويعد احد كتاب القصة القصيرة جدا الذين تركوا بصمات واضحة على هذا الجنس الادبي وأثبت للمعارضين له أن هناك قص فاعل ومتين يرقى الى مستوى القصة القصيرة .
في نص له تحت عنوان " فكرة مجنونة " يقول ) اراد ان يجمع افكاره المتناثرة في ثنايا ذاكرته المتعبة ، لم يجد سبيلا للاحتفاظ بها سوى حقيبة ملابسه ، عندها ادرك سر السفر ، وضع كل افكاره في حقيبته المتواضعة الا فكرة مجنونة تمردت عليه وغادرت الحقيبة بكل شجاعة ، فأودعها مستشفى المجانين وهو يبتسم ) ...
الفكرة هي ثيمة القصة وهي نقطة ارتكازه ، عالمه الذي يحلق به ، حتى الحقائب ليس بامكانها لملمة الفكرة أو حصرها في مكان فيزياوي ، الفكرة مكانها الذاكرة ، والذاكرة هي الخيال المفرط الذي يصنع العوالم والاشياء المادية والبصرية ، هروب الفكرة هو رفض التقوقع أو السكونية ، التحجيم ، الوأد ( وأد الفكرة ) عندما يكون الجسد في حقيبة سفر لايمكن للفكرة أن تكون في حقيبة ، صياغة متقنة للنص القصصي وابداع رائع .
وفي نص آخر تحت عنوان " اخطاء " يقول ( كلما احس بخطأ ارتكبه ، أقسم ان يكون الاخير ، وحين تراكمت وارتفعت مستواها عن سطح البحر أشعل عود ثقاب ليحرقها عاد الى ذاته عاريا يبحث عن اخطاء لم يرتكبها ) ..
في هذا النص يحاول القاص تعرية ذاكرته من الاخطاء ، الخطأ نسبي بالنسبة الى الشخصية ، ربما يكون ماهو خطأ بالنسبة اليه صائبا بالنسبة الى غيره ، مراجعة الذات هي تقويم للشخصية وللفكرة الناضجة والصائبة في مخيلة الكاتب .
وهناك عدد قليل من القاصات اللاتي اثبتن وجودهن في هذا الفن القصصي المتميز مثل القاصة ايناس البدران والقاصة نجاة عبدالله ، ففي نص لايناس البدران تحت عنوان " مفاجأة " ( في الوقت الذي ظن فيه انه نجح في تحطيم جدران زنزانته ... هوى السقف على رأسه ) هذا النص المختزل جدا والذي لايتعدى ( 15 ) كلمة تمكنت القاصة من رسم لوحة قصصية مقتطفة من خيال واسع شكلت فيها الاخيلة مهارة في التركيب البنائي واستخدام مؤثرات رمزية دالة على ان الزنزانة هي السجن الروحي أو القيد النفسي ، بينما السقف هو حالة الخيبة التي وصل اليها في تحطيم زنزانته الروحية ، وفي نص آخر تثبت القاصة قدرتها على صياغة النص بحرفية عالية والذي يحمل عنوان " حلم " ( حلمت فنامت قريرة العين ، وحين استيقظت كان الحلم قد غفا ) صورة حلمية جميلة ، ومراوغة في التعبير اللامباشر وذكاء تصويري للحلم الذي يقطن في المخيلة ، الحلم هو مادة القص وفكرته ، لكن كيف يغفو الحلم هذا الكائن الاثيري الذي لايقطن الا في مخيلة القاصة زمانيا ومكانيا ، بينما في النص لاوجود للمكان او الزمان الفيزياوي ، انه الومضة الانية التي يركض وراءها المتلقي باحثا عن الصورة الفلمية – الحلمية - ...
ولها نص جميل يعكس لغة الفكاهة المستفزة ، فكاهة اللحظة الحرجة ، كيف تضحك ملء شفاهك وعنقك تلفه المشنقة ، مشهد تراجيكوميدي ترسمه القاصة ايناس البدران في قصتها " مشنقة " شخصية القاصة تداعب حبل المشنقة ، تدغدغ الاذهان اللاقطة وتنتج ابتسامة مشوشة المعالم ، ضحكة منقبضة بين فكي دهشة حلم ، صورة كاريكاتورية ساخرة ( نظرت في عيني عشماوي وقالت : ان حبل هذه المشنقة يدغدغني ..!!) أية صورة تلك وأية مخيلة تلك التي رسمت هذا المشهد الذي يخفي خلفه الكثير من الاسئلة العفوية والدالة ، كيف لمن يعتلي مثل هذه المفردة المرعبة ان يشعر بدغدغة المشنقة ..
من خلال قراءتي لنصوص ايناس البدران اكتشفت انها من المؤمنين بان قدرة الكاتب الجيد في اختصار النص لأكبر متسع من المعنى ، كما انها تمتلك امكانية جيدة في النقد الادبي ولها دراسات عديدة في القصة القصيرة والرواية جعلتها ممن ينظرون الى نصوصها بعين الناقد والمتلقي والمتذوق ...
كما تقف القاصة والشاعرة نجاة عبدالله في المقدمة من القاصات المتميزات في كتابة القصة القصيرة جدا ولها اسلوبها الخاص في بلورة افكارها بنصوص روضتها في مخيلة خصبة وامتلاكها مهارة في التعبير اللغوي والاستخدام الامثل للصور الشعرية ، ولكونها شاعرة فأن اسلوب قصها قريب الى الشعر( النثري ) ، ليس الطاغي على نظام القص ولكن عندما يكون ضيفا خفيفا على النص يعطيه شفافية عالية ..، ففي قصتها " أصابع جدي " ابدعت هذه القاصة التجريدية التشكيل السوريالية الرؤى في هذه القصة ( دولاب جدي الذي صنعه من جلد حوتة كبيرة ..كان قد إصطادها ساعة بحثه عن خاتم سليمان ..وحده من لم يشهد قصفا مماثلا كالذي أطاح بسقف الغرفة الوحيدة وأدوات المطبخ التي تُبذر حليبها بين الحين والآخر..حين هدأ القصف .. ظل يقص علينا جدي نحن الصغار ما أصاب أصابعه النحيلة من إنحناءات أودت بكفه وظلت الاصابع ملتصقة بقلبه ..كنا نضحك جميعا ونحن ننظر قلب جدي وقد نبتت منه أصابع طويلة , ساهم زيت الحوت بالتصاقها على هذه الصورة المضحكة ..قصف آخر اشد رعبا من الاول وأكثر هولا مما شهدناه في السنوات الماضية ..أودى بالقرية كلها ..حتى تفسخت أصابع جدي ..وكل ما تبقى في البلدة هذه المرة هو واحدة من أصابع جدي الكبيرة التي لفت بردائه الداخلي لتصبح يافطة كتب عليها ( نحذر من التدخل السافر في شؤوننا الداخلية ) .. في هذا النص براعة في التصوير وفي نقل الخيال من خلال الرمز ( الاصابع ) الى واقع سردي ، والجد هو شخصية القص والاصابع هي مادة الوصف ، قصة واضحة في النظام السردي ، وقد يصنف البعض هذا النص ضمن نطاق القصة القصيرة لما تحتويه من لغة سردية ومساحة قص تمكن القاصة فيها من الحركة والتلاعب بالمفردات ويمكن ان يكون هنك زمن ما ، مهما كانت فترته ، ولكن الاختزال الذي اعتمدته في نظام القص وسحبها الزمن الى السالب أو الماورائي جعل النص يقترب بمدياته الحدثية وومضته الى القص القصير جدا . ولها نص آخر لايقل روعة عن هذا النص يحمل عنوان "قلب الغريب " ( كانت تجلس خلف البحر الذي بدا وكأنه يستسلم لكآبة شتاء محموم تتأمل بحساسية مفرطة تلك الأقدام التي تقترب منها ، أصبحتْ قادرة على تمييز الصوت القادم... رجل، إمرأة، شرطي، طفل، ابن حلال، ماوري*، كيوي*، عاقل، مجنون ،عبد ،حر، نغل ، صوت آخر بدأ يقترب منها الان , كانت تعرف إن هذا الصوت جاء من الخلف بل من البحر بالتحديد ...بدا يقترب اكثر فاكثر همس في إذنها.... الان عرفت ..إن الاسماك بلا قلوب ) . نص متميز لقاصة متميزة أتوقع لها مسقبلا كبيرا في المشهد القصصي العراقي ، لا لأنها شاعرة تقحم نفسها في نظام القص القصير جدا لكونه سهل الكتابة ، وانما لآنها تدخل مجال القصة ككاتبة مقتدرة لا لأستسهال كتابة هذا الجنس الادبي .
ويأتي القاص كاظم الميزري بنصوص متميزة لما يمتلك من قدرة على القص وأسس له منهجا خاصا في القص القريب من النثر ، كونه يجيد كتابة القصائد القصار الشبيهة ب - النثيرة – ولكنها تختلف عن الاولى بمادتها السردية وآنيتها ، في نص له تحت عنوان " معرفة " ( في ليلة حاشدة ، قذف بنفسه من اعلى الجدار ، مات ، كان يريد معرفة مسقط رأسه ) الفكرة هنا في الرأس وفي مكان الاسقاط ، نص مختزل بصورة كبيرة ، الاختزال لم يؤثر في مادته الوصفية أو الترابط في الثيمات ، كم أسقط من الكلمات وشطب منها من اجل الخروج بنص متوازن بتوازن الفكرة – النص - كيف لانسان ان يتخيل مسقط رأسه ، في شهادة الميلاد أم في مكان الاسقاط الذاتي الذي يركن الى الموت ..!!
نص آخر ممتع في مادته وفكرته يحمل عنوان " فشل " ( فتش في وجوه الاخرين عن وجهه ، وجد رقبته بلا رأس ، طار صوابه ، علل فشله بأنكسار المرآة ) عندما نظر في المرآة لم يكن هناك رأس ، انكسار المرآة أخفى ملامح الرأس ، توقعت الشخصية الرئيسية في النص ان رأسه قد طار ، خيال خصب وامكانية كبيرة في القص الناضج الذي يرقى الى فن القصة القصيرة جدا ، محاولات لمواجهة الرفض القائم على فرضيات ورؤى خاطئة بغرابة هذا الفن كجنس ادبي مستقل بذاته ..
اما القاص ضياء مهدي فهو الاخر امتهن كتابة القصة القصيرة جدا لاتقانه كتابة الشعر ، يحاول ان يجعل من نصوصه مكامن لافكاره الباثة – اللاقطة ، يحول الخيال الى واقع ملموس والى صور درامية متحركة غير جامدة ، في نص يحمل عنوان " الخاتم " يقول ( سمعت صوتها المتكسر بارتجافات الضلوع ، هرعت طائرا اليها رغم نيران الانفجار المرعب .. وعند هيكل سريرها العاري لم اجد سوى خاتم الزواج ) ، لو تم تقطيع هذا النص تقطيعا صوتيا لوجدنا انه يقترب من النثر – شعرا – ولكن مادته السردية ابعدته عن – القفشة – الشعرية ، نص آخر قصير جدا يحمل توقيع " الطفولة " ( كي يسمع ماتحكي الطفولة عن ضحايا الموت المباح ، كانت كل خلاياه تصغي بأنتباه .. وفي لحظة نجاح ايقاد جمرة الحياة في روحه المهشمة تناثر هيكل جسده ، تناثر الزجاج اثر الانفجار .. لكنما الطفولة دخلت مغارة الكهولة ) ، هذا النص يؤكد حالة التشظى ، عندما تكون الطفولة مهشمة ، تتهشم الافكار وتتلاشى الاشياء ...
قاص شاب آخر له امكانية وموهبة كبيرة في كتابة القصة القصيرة جدا وله مستقبل كبير بين القصاصين المتميزين في هذا المجال وهو منتظرناصر، تساعده امكانيته الشعرية الجيدة في ترصين موهبته واعطائه ارضية صلبة في ولوج هذا الجنس الادبي الذي يعده البعض من النقاد هجينا على انظمة القص ..
في نص يحمل عنون " نخلة صلعاء "ابدع في شاعريته وسرديته ( قرب نخلة صلعاء .. تنفث الدخان من رأس مشتعل بالحرائق مثل بخور هندي .. وعلى قارعة طريق مخاطة بأقدام منكسرة لجند مهزومين .. ترتفع يد في الفضاء لتغرف حفنة من دعاء ملسوع بأشعة الشمس .. ثم تهوي غارقة في وحل دماء أخذت تنسج طريقها في الرمال بموازاة ظل النخلة الذي استطال عند الغروب , وتوسع في الظلام). هذه اللغة المميزة ونظام القص المترابط الثيمات ، القريب من التقطيع الفونولوجي والمفردات المنتقاة بشفافية عالية ، تشعر ان القاص قد اعاد كتابة السطر الواحد لاكثر من مرة واعاد الكتابة مرات عدة من اجل الخروج بنص محكم ومتين جدا لاشائبة فيه سوى انه نص رائع في نسجه وترابطه وهيكلته وفي رؤاه ..
وفي نص آخر تحت عنوان " وهم " (كان كلما ضاجعها أغمض عينيه متخيلاً امرأة أخرى .. لكنه لم ينتبه الى أنها كانت تغمض عينيها هي الأخرى...) ..كلمات أو مفردات لغوية قليلة جدا لكنها اعطت صورتان حلميتان / الزوج / الزوجة / والقاسم المشترك بينهما هي لغة الخيانة / الخيانة في الرؤيا ، ان تتخيل امرأة وانت في حضن زوجتك أو ان تتخيل الزوجة رجلا وهي في احضان زوجها ..
في هذه الرحلة مع عالم القص ومع جنس ادبي اثبت كتابه ان هذا النظام قائم بذاته كجنس أدبي يحمل استقلالية اجناسية ورؤيا خاصة ، قد يسئ اليه بعض الدخلاء من الذين يعتبرونه فنا سهل الكتابة لايحتاج الى عناء أو جهد فكري ، مجرد أفكار أو هلوسات في اللاوعي كالالهام والومضة الشعرية وانه يمكن كتابتها بسهولة ، هذا النوع من الكتاب هم من أساءوا الى فن القصة القصي
عن الشاعر أشرف الهنداوى
0 التعليقات:
إرسال تعليق
دام الابداع والرقي فى التواجد نسعد دائماً بعطر تواجدكم